نهار الكتب
اليوم أول شهر رمضاني نعيشه دون شقيقي الأكبر أو فيما يخص ثقافتنا
الدينية الأسرية راعيها ومؤسسها حتى إننا نستفتيه فيما سبق عن ما يغيب علينا علمه
وليس كبير سؤال أو المشكل منها .
عدنا وإخوتي الذكور من المدرسة ، وما أبغض الدوام الدراسي في شهر رمضان
وذلك ما كان في نظام دولتنا طيلة مرحلتي المتوسطة والثانوية ثم جاءت بعدها عشر
سنوات لا نداوم فيها طيلة هذا الشهر المبارك إبان دراستي الجامعية .
أمرتنا الحبيبة أمي أن نعجل إلى نقل الكتب التي كانت حينها في منزل أخي
محمد إلى منزل العائلة الرئيس ، وقد بدأ ذلك المنزل يتنازل شيئاً فشيء عن مقتنيات
أخي إيذاناً بنازل جديد .
وهذه المرة جاء الدور على الكتب التي أخذت من أخي محمد – رحمه الله – جل
وقته وماله وجهده وربما زاحمت يومه فلم يبقى له ما يصرفه لأهله والغادين عليه من
الناس والمتطفلين .
استعنا بسيارة أحد الجيران المهيأة للنقل ، وما أشقى تلك المهمة فنحن في
صيام عطاش وجوعى وفي وسط النهار حيث تتوسط الشمس كبد السماء في منطقة لم يجرب
حرّها مخلوق حتى غلى رأسه كالمرجل وكاد أن يختل عقله ويطير من مكانه .
وأبلغ من ذلك هزالنا وضعفنا من أثر الدوام المدرسي الكريه في عزّ النهار
ومنتصف القايلة ، ولكن الأمر قد نفذ وطالب الأمر لا يرد حتى لو طلبت أن تلقي بنفسك
في وسط التنور المستعر .
بدأنا في ترتيب الكتب التي تجاوزت مبالغ شرائها كما حدثني صاحبها العشرة
آلاف ريال ، لقد كان يعشق القراءة ولا يكاد يتركها حتى إنه ليعكف عليها ساعات طوال
وربما نام وهو منكب على واحد منها .
في وسط هذه الأجواء الثقيلة على النفس وقع اشتباك بالأيدي بين إخوتي نايف
وأحمد كثيرا المشاكل ، ولعلهم جزعوا من هذه المهمة وسرعان ما انتهى هذا العراك إلى
التراضي والضم الحميمي مما أعان على استكمال المهمة بشكل سريع .
وصلت أحمال الكتب الثقيلة إلى منزل العائلة الرئيسي حيث نسكن ، وكم هي
السعادة البالغة وأنا أتملى في أعداد الكتب الهائلة وقد أصبحت ملكي وقطعت عهداً
معها ذلك الحين ألا أختار صاحباً سواها
ولا جليساً غيرها وأحسب أنني كنت وفياً معها .
وزهدني في الناس معرفتي بهم *** وطول
اختباري صاحب بعد صاحب
لقد حان وقت ترتيب الكتب وصفّها على النحو الذي يروق لي واختيار الكتب
التي أنتفع بها وأستغني عن الآخر لصالح واحد من المشاريع التي سيقوم قريباً في
المنطقة على نية المغفور له بإذن الله .
وكم ندمت على هذه الفعلة فلم أعرف حينها أن العلم يتتابع بشكل مذهل
ويصيبك بعادة نهم القراءة التي تطمع معها أن تلتهم كل ثقافة وتأتي على جميع ما كتب
في العالم بل ما طبع منها وما يكون في ذلك الصدد .
ولتعلم أن أغنى ما يملك الإنسان هو ذلك المودع في الكتب ، فإنه وإن خسر
الأموال الطائلة والذهب المكنوز لا يعد بخسارة مثل هذه المراجع النافعة والمصادر
الجامعة .
وبينا أنا أسبح في أمواج الكتب المتعددة في كل فن ومجال وعرقي يتصبب
عليها ويتفصد من جبيني بغزارة ويهطل على صفحات الكتب وأغلفتها وأنا في بالغ
السعادة والاستبشار لأنني طالما علمت أن العلم لا ينال براحة الجسم وأن هذه المشقة
ستتحول إلى فضيلة ونعم جمّة بعد حول الله وتوفيقه .
صباح شاتي
كان مساءً شاتياً وطقساً بارداً يكاد جلدك أن يتجمد من شدة وخز البرودة
وزحف الطقس في بدنك ، والساعة تقترب من أوان الفجر في قريتنا وأطرافها ترتعد من
شدة القرّ .
في تلك الأيام كان يزورنا المطر ولا يكاد يرحل قبل أن يمد ذلك البساط
الأخضر الزاهي على هامة قرية الصفة الوديعة ، واليوم تبدّل الحال !! لا أعرف إن
كان على وقع الاحتباس الحراري الذي بدأ يهدد البشرية وينشر الرعب في كل مكان من
العالم .
أم أنها الذنوب من عند أنفسنا التي دعت الحيوانات لتشتمنا من طول العهد
بالمطر ، ولعل هذا الحديث يجرّني إلى الفكرة السائدة في ثقافة مجتمعنا كون ضيق
النفوس وشحها بالخير والتسامح كان سبباً حقيقاً في منع المطر واحتباس السماء ،
وهنا يقوى الحنين للماضي والتشكي من الحال الراهن وأن سالفنا خير من حاضرنا والله
المستعان .
أخي محمد يربت على أكتافنا بهدوء لنستيقظ لصلاة الفجر ، جميع إخوتي
أصبحوا على أتم الاستعداد بعد أن تعاقبوا على الخلاء لقضاء حاجتاهم والتهيؤ للصلاة
.
بدأنا نصطف أمام سيارتنا الهايلوكس أو الهاجري كما يسميها شقيقي الأكبر
نايف ، وقوة الطقس تكاد تنخر جسدي النحيل الصغير وأنا أتدثر بمعطف وثير وقطعة لحاف
ضخمة يشاركني تحتها جميع إخوتي وأجسادنا ملتصقة ببعضها في حميمية بالغة طالما
تكررت في بيتنا الدافئ .
وربما تأخر أحدنا عن الحضور ويعود محمد مجدداً لتقصي أمره فإذا به يعود متسللاً
إلى سريره ليعاود النوم مجدداً ، حينها سبق السيف العذل .
حيث لم يعد للهدوء والتؤدة موقع ، وتنهال على وجه ذلك النائم المتسلل
صفعة مدوية من يد أخي محمد المليئة باللحم والغضب ينفخ أوداجه ويدوّر عينيه .
يعجل ذلك الكسول إلى معالجة الأم وينتظم معنا تحت الغطاء الجماعي ،
ونتوجه إلى المسجد لأداء الصلاة ثم نعود مجدداً إلى المنزل فإما إلى النوم أو
الدوام الدراسي .
وحتى بعد أن غادر أخي محمد المنزل إلى حيث يبيت مع زوجته لم يتركنا هملاً
، بل كان يتكلف المجيء مبكراً إلى منزلنا ليوقظنا لصلاة الفجر ولا يغادر البيت قبل
أن نسبقه إلى المسجد .
وقد كنت أكثر إخوتي ممن ينال صفعات الوجه الساخنة نظراً لشدة كسلي وتحججي
بصغر سني وعدم تكليفي بالصلاة لكنه كان يصرّ على أداء الصلاة جماعة في المسجد .
ولأن أخي محمد كان مشفقاً رحيماً فقد كان يتركنا أحياناً إذا شعر أننا في
جهد من أمرنا وإرهاق شديد ومسيس حاجتنا إلى النوم ، ولا بأس بأداء الصلاة بعد
الاستيقاظ .
وعلى كثرة ما نلتقي مع أخي محمد لم يكن يسألنا عن شيء أكثر من سؤاله عن الصلاة ، وأين كان أداؤها وبرفقة
من ؟
وعلى كثرة أخطائنا وتعدد هفواتنا لا يضربنا على شيء سوى الصلاة ، وهكذا
دائماً لا يغضب لسوى هذه العبادة العظيمة ، رحمة الله على أبا عبد الرحمن ومتعنا
الله بطاعته .
ولنا عودة وبقية ،،،