قبل خمسة وأربعين عاماً وهو يقرأ في كتاب للفقه وحتى اللحظة لم يفتئ يطالع الكتب ويرتشف من العلم دون ملل ولا كلل .
وهكذا هي عزائم الرجال ممن عرف قيمة العلم وشرف أهله فنذر نفسه لهذا الشرف وأوقف حياته في سبيل العلم علماً وتعليماً دراسة وتدريساً استرشاداً وإرشاداً .
منذ رأت عيني النور وأصبحت من الفتوات التي تؤم شطر صلاة الجمعة وهذا الشيخ الوقور وقد صبغ لحيته متوسطة الطول بالحناء يعتلي منصة الخطابة ومقام الجمعة ويلقي بالمواعظ وينادي في النفوس البر والشكر والتقوى .
ولعله استفاض في التذكير والتنبيه حتى ذرف من عينه الدمع وتنهد بحرقة وألم على المجتمع والدين والإنسان ولم يوهنه كبر السن وما شاخت همته ولا هرمت عزيمته في الحق والبر والإحسان .
رغم صغر سني وحداثة عمري لكنه يلاطفني ويداعبني ويكثر من الحديث معي والجلوس إلي ويلقبني بالمدينة التي أدرس فيها أو المهنة التي أحلم بالعمل فيها .
ولعل الذكريات تسوقني إلى الماضي عندما كنا نزوره صبيحة كل يوم عيد برفقة بعض أصحابي الأطفال ويستقبلنا بحرارة ويصب لنا الماء والقهوة ويقرب التمر بنفسه ولا يسفه أحلامنا ولا يستحقر أعمارنا ولا يرانا إلا كالضيوف الكبار وعيناي تتلمح المكتبة الهائلة التي تقع خلفنا عند الجلوس .
موعدنا معه بعد الفراغ من صلاة العيد التي لا أعرف لها خطيباً وإماماً سوى هذا الشيخ الفاضل حيث يصدح بترتيل خاص وترنيمة عيد مختلفة لبقية أيام الإمامة من السنة ويذيع بخطبته ذات اللزمات المعتادة ثم ننفض من المصلى إلى حيث أهلينا وذوينا ويعقبهم في الزيارة .
دروسه الرمضانية اليومية عقب صلاة العصر تحمل من الذكريات والمعاني الكثير فهي واحدة من الملامح الرائعة لشهر الله الفضيل سيما وهو يلقيها بروح مؤمنة وصوت رخيم يحمل طابعاً رمضانياً مميزاً ونغمة صادقة مختلفة .
تستغرب من هذا الشيخ حصته الرياضية اليومية التي لا يفارقها حيناً بعد الفجر وأخرى عند العشاء الآخرة حيث يجوب قرية الصفة طولها وعرضها برفقه عصاه ولعل بعضاً من أبنائه أخذ بديدنه هذا ولكن لا أعرف هل سيتمسك به كما كان من والده الذي تجاوز الثمانين عاماً وهو على عهده من الخير والنصح والتوجيه والفضيلة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق