السبت، 17 مارس 2012

أحمد بكري .. رمز الإيجابية




 

لا أحد يعرف أن يكتب عن هذا الإنسان بمثل ما أكتب ، ليس لأني أبرع كاتب ولا أجودكم قلماً وأبلغكم لساناً ، ولكني الوحيد الذي يعرف ذلك الإنسان ويحبه حباً كاد أن ينحل معه جسمي ويلتصق ببعضه ، ويطير القلب هياماً في سماوات الغرام .
وربما لم يكتب لأحد أن يكون تلميذاً في مدرسته ما بقيت به الحياة وامتد به العمر إلا أنا ، فما زلت طالباً بين يديه أثني الركب لأنهل من موارد البصيرة وألتقط من شوارد المعرفة وأقتفي أثره في الحماسة للإيجابية ذلك بلسان الحال لا بجودة المقال وبليغ الأقوال .
وذلك لأني وجدته في كل موقف صورة لا تتغير إلا إلى مزيد من النزاهة والحسن لا تزحزها تصاريف الأيام وتقلبات الحياة ، وأتلمح بين ثناياه بطولة أدبية شجاعة لا تقف لوفادة صديق ولا لصرامة مسؤول .
فهو الطاهر الصادق الزاكي أينما وجدته ، الناصح الأمين كيفما يستوجبه الحق وتطلبه العدالة ، والمبارك الصالح حيثما كان وأينما ارتحل ، نحسبه كذلك والله حسيبه ، ولعلكم اتهمتموني بالمبالغة والمغالاة وليس لي من ذلك نصيب .
وحالك واحد في كل حال *** وحالات الزمان عليك شتى
إنما أحدثكم بما يظهر لي حتى مع محن الحياة والمحكات التي تجلو فيها الشخصية وتبرز حقيقتها ، وهل لنا إلا الظواهر من الناس وما يغلب عليهم مع سبق حسن الظن بالمسلم وتحري الصدق والنزاهة منه .
ولهذا كان عمر – رضي الله عنه – يقول : " إن أناساً كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وإن الوحي قد انقطع ، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم ، فمن أظهر لنا خيراً أمناه وقربناه وليس إلينا من سريرته شيء ، الله يحاسبه في سريرته ، ومن أظهر لنا سوءاً لم نأمنه ولم نصدقه وإن قال : إن سريرته حسنة " البخاري .
ولا أعرف مخلوقاً على كثرة من أعرفهم ينقطع لمشروعاته التي يقدمها لمجتمعه بمثل ما ينقطع لها هذا الإنسان ، وربما أضر بمصالح أهله وشخصه من أجل ذلك ، حتى لا تكاد تجده يستقر في منزله إلا ما ندر ولا يهدأ هاتفه عن الرنين فبين سائل وطالب حاجة أو استشارة .
ولقد رافقت غير واحد من الرجال حتى خبرتهم وسبرت غورهم ، وربما جمعني العمل المتكرر غير مرة بصنوف الناس والأجناس فلم أجد مثله ، ظاهرة كباطنه وقلبه على لسانه وصدقه ديدنه وهجيراه في كل لحظة وحين .
ولا أجد رجلاً اتفق عليه المختلفون والتمّ عليه المتفرقون واجتمع حوله المتنافرون وعلى صلاحه وتقواه وحرصه على الخير مثل ما اتفقوا عليه ، وكم نقمت على الزمان وكظمت ذلك حتى تبدى في فلتات اللسان وهفواته .
نقمت عليه إذ نقمت لأنه لم يعطي هذا الإنسان حقه ولم يقدره حق قدره ، ولم ينزل الناس الذين اعتادوا الأخذ دون عطاء – على خلافه – أمثال هؤلاء الرجال الأفذاذ منازلهم من التقدير والاحتفاء والحظوة .
ولعله لقي من احترام تلاميذه وطواعية أبنائه وإذعان الصغار له واحترام الكبار لشخصه واستئناسهم برأيه والحاجة إل نفعه ومعونته ، لكنه لا يعدو أن يكون من قبيل المجاملة الاجتماعية المستملحة ، أما غير ذلك من حفظ الود له وإنزاله المنزلة التي يستحقها من التقدير والتوقير فلا شيء البتة .
وإن المجتمع الذي لا يحتفي بالمصلحين فيه الباعثين لمعاني الإيجابية والعطاء الثر دون مقابل لا يستحق أن يتقدن أو يُلتفت إليه .
أنا خير من يكتب عن هذا الإنسان ، ذلك لأنني عرفته معلماً : كأحرص ما يكون المعلم على طلابه وأخلص ما يكون إلى رسالته العريقة التي كاد أن يكون بها نبياً ، لقد كان يشعرنا أننا أقرب إليه من حبل الوريد وأحب على قلبه من نفسه وألذ في وجدانه من جريان الماء البارد بين عروقه .
وربما بلغ به من الحماسة لتفهيم الطلاب وغرس قيم كل درس في نفوسهم أن يفقد صوته ويحذره الطبيب أبداً بالتقليل من التحدث وإلقاء الدروس ، وهو لا يقوى على ذلك .
ناصح في الشارع آمر بالمعروف منكر للسيئ من القول والفعل ، مدرس يذهب نصف يومه في الشرح والحديث ، واعظ المسجد يلقي الدروس والرقائق ، ناشط دعوي لا يغمض له جفن في المساء قبل أن يدير اجتماعاً أو ينفذ مشروعاً في خدمة الشباب ورعايتهم .
ولعل ذلك أخذ من جهده ووقته ونشاطه وحق نفسه وأهله بل بلغ أن استلب من صحته وفي تمام الرضى وأقنع يقين ، أي فداء ذلك من أجل الهدف ، وأيّ تضحية في سبيل رسالته على وجه هذه الحياة .
وذلك لأنني عرفته في المسجد إماماً نشطاً تجاوز مفهوم الإمامة القاصرة حتى غدا مسجده منارة علم منبع هدى ، وأنشط بكثير من الجوامع الضخام في قريتنا الهامدة كأنها جثة بلا روح ، ولقد كان مسجده واحد من المنابع الأولى ونواة لمشاريع الدعوة المنظمة وجهود الإرشاد والوعظ الديني الذي ينتشر الآن في أكثر من ثلاثين قرية من وادي حلي .
إنني أكتب عن هذا الإنسان لأنه أضاء كل جانب من الإنسان حتى بدى وكأنه خال من العيوب مكتمل الشخصية ( معصوم من الخطأ ) ، ولولا ضلالة هذه المقولة لقلت بها ونعت أمثاله من الفاعلين والنشطين .
لقد كان نشطاً في حيه والشارع الذي يسكنه ، ويكفي أن تتلمس ذلك عندما أقول لكم أنه في قريتنا ما يتجاوز العشرة شباب فاعلين نشطين أصحاب مشاريع عظيمة وأهداف نبيلة وهم أبداً في سعي حثيث لها كما علمهم هذا الرجل .
وهو وجه اجتماعي فاعل وعضو لجنة إصلاح ذات البين ، وربما تجاوز نفعه أهل بيته وذوي رحمه ليحمل هموم قريته بأكملها ، فالشاب العاطل يقض مضجعه حتى يصيب رزقه والفتاة العانس لا يهدأ حيالها حتى تنال نصيبها والعجوز الوحيدة يقطع عليها وحشتها والعائلة المسكينة يسعى لها سعيها .
وهو على هذا المنوال منذ عرفته حتى اللحظة لم يوهن عزمه ولم تفت عضده تتابع السنين :
 
ما شاب عزمي ولا حزمي ولا خلقي *** ولا ولائي ولا ديني ولا كرمي
ما اعتاض رأسي غير شيبته *** والشيب في الرأس غير الشيب في الهمم

أما الدعوة فهي همّه الدائم وشغله الدائب وهو في خدمتها ما امتدت به الأيام ، وأنا أكتب هذه الأسطر وهو يدير أكبر مؤسسة دعوية في منطقتنا يصرف من أجلها معظم الوقت وتنال منه كل الجهد والسعي .
ناهيك عن حجم الإنجازات التي قدمها في هذا المجال والأشواط التي قطعها في مسيرته الدعوية ، ويكفيك أنه يعد رائد العمل الشبابي على محافظة القنفذة التي يتجاوز عدد نسماتها الخمسين ألف حي .
ولقد عرفت من أبوته وأخوته ما دفع البعض للظن أنه شقيق لولا اللون ، وابنا عائلة واحد لولا اختلاف القبيلة ، فهو ربما بلغ من اهتمامه وسؤاله عنّي أن أمدني مرات كثيرة بالمال إذا علم فاقتي ورقة حالي .
ولا بأس بالأخذ منه دون تردد فهو الأب والأخ الأكبر وربما أكثر من ذلك !!
 
عمر البدوي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق