فقد حزين
ليس حديثي لكم الآن عبارة عن صفحة وفيات لإحدى صحفنا العربية الهزيلة ،
ولا سجل وفيات لأحد مستشفياتنا العربية المتهالكة ، بل هو حديث مشاعر ومجموعة
عواطف حيّة تمور في الصدور لمن بقيت أرواحهم حيّة في نفوسنا حتى بعد مغادرتهم ظهر
هذه الحياة .
فقيمهم النبيلة ومواقفهم الجميلة لم تزل حاضرة في الذهن راسخة في الذاكرة
تبعث كل حين ما يذكّرنا بهم ويحرك دوافع الشوق إليهم .
يوسف إبراهيم أنيس الصحبي ، كان الأسبق إلى مغادرة الحياة ، لقد كان
الألم الحقيقي الأول في حياتي الذي تجرعت مرارته وذقت لذعته .
وربما كتبت قبل ذلك مقالة نشرت في صحيفة الرياض السعودية وقتئذ وعلقت على
مواقفه الباسمة الذي طالما كانت تحضر معه في أي حال ، فلم أرى من المنطق نقلها حتى
لا تتكرر الأفكار ويملّ القارئ الحديث .
رغم وفاة والدي – رحمه الله – وعمري عندئذ أربع سنوات ، لكنني حينها لم
أكن أعقل مرارة الفقد ولهيب الفراق ، أما ما نالني حال سماع خبر هذا الشاب من ألم
كاد أن يخلع قلبي من مكانه .
لقد كانت المرة الأولى وربما الأخيرة في حياتي كما أتذكر التي أسح فيها
الدمع أمام الشباب ، فإن دموع الرجال – كما قيل – عزيزة ، وليس من المروءة أن تبكي
أمام أحد .
غير أن هذا الموقف لا يأبه بمروءة رجل ولا جلادة نفس ولا يحتاج إلى حلم
ورويّة ، فوقع المصيبة أسرع من كل عقل وأبلغ من كل حال :
لئن كنت محتاجاً إلى الحلم إنني *** إلى
الجهل في بعض الأحايين أحوج
وإن كان قد تقادم الزمن بنا وشاخت ذكرياتنا مع هذا الصديق حتى لم يبقى
منها إلا اسمه والوفاء الذي يسكن بقية إخوانه ، لكنه لا ينفك ينداح كل حين في
مخيلتي بابتسامته المشرقة وإطلالته الوضاءة .
لقد كان ألطف من عرفت وأجود بالحب ممن لا قيت وأبرد على القلب من قطع الثلج
، وأحب إلى النفس من سلوة الخاطر ومهجة الفؤاد .
أما صديق صديقي / عبده بحران الشقيفي فلم يجمعني به زمن طويل ولا زمالة
دراسية عتيقة ولا حتى لقاءات متكررة أو مطولة ، لكنها الصدفة إذا ما جاءت على نحو
يجمعنا بأنبل الناس وأخيرهم .
لعله من الغريب أن تجد مخلوقاً قليل المعرفة بك ، ثم إذا ما التقاك ضمّك إلى
صدره حتى تجتمع أضلاعك من شدة الشوق وفرحة اللقاء ، ويقبض على يدك بحرارة وقوة ولا
يكاد يطلقها وكأنه يشتهي أن تودعها بين يديه وتستأمنها لديه ، ناهيك عن تلك
الابتسامة العريضة التي تفيض من ثغره بكل معاني الصفاء والجلاء والمحبة .
ولعل رجلاً لا يجمعك به كثير مواقف ولا تربطك بشخصه عديد قصص سوى الشوارد
والنوادر ثم يترك في نفسك كل هذا الأثر ويبقي لك عمق الانطباع الإيجابي الرائع
لحقيق أن لا يغادر الذاكرة والقلب وإن غادر الحياة .
وبقدر ما ألِمت لموته فرحت لخبره ، ذلك أنه مات في ليلة السابع والعشرين
من شهر رمضان المبارك من عام 1429 هـ ، ولعله من بشرى هذا المؤمن التقي الخفي
الغني أن يموت في مثل هذه الليلة المباركة .
وقد كان صديقي الحبيب ( وائل
إدريس الصحبي ) من أشد الناس ألماً لخبر هذه الوفاة وأكثر وقعاً عليه فهو المقربين
إليه والمحببين لنفسه ولم أجد وقتها كلمات تسعفني لتسليته ومواساته فالفجيعة كانت
قاسية صلبة .
وقد جاء الخبر حينها ونحن في اعتكاف العشر الأخير من رمضان وربما كانت
فرصة للدعاء لهذا الشاب الخلوق في أطهر بقعة عسى أن يتقبل الله دعائنا وأن يتغمد
هذا الشاب بواسع رحمته ويدخله فسيح جناته ، آمين .
أما زميل الدراسة لسنوات عدة وصديقنا الوديع / عمر أحمد الغانمي فقد خطفه
الموت من حضن الأحلام التي يعيش وسطها كشأن كل شاب ، خطفه ولم يبقي لنا سوى حجم
الذكريات الضئيل وراءه .
ولعل طيبة قلبه وسماحه طبعه ودماثة خلقه حتى لا تجده مرة يرفع صوته في
شجار أو يبتدرك إلى خصام جعلته يسكن قلوبنا وأذهاننا ، يقول الله تعالى : اطلبوا
الحوائج من السمحاء ، فإني جعلت فيهم رحمتي ، ولا تطلبوها من القاسية قلوبهم ،
فإني جعلت فيهم سخطي " كما أورده القرطبي في تفسيره .
كان يحب المزاح كثيراً وهو دائماً ما يحاول أن يصارعني ويغلبني لولا
نحالة جسمه وضعف بنيته ، كان مؤلماً جداً خبر وفاته حيث لم يعش طويلاً بعد تعرضه
لحادث مروري .
وكذلك عيشه في هذه الحياة لم يدم طويلاً فلقد عاجله الأجل قبل أن يبلغ
العشرين عاماً من عمره ، رحم الله عمر ساس كما كنت أناديه فلقد ساس قلوبنا إلى
الخير وحب الناس واللطف معهم .
حكم المنية في البرية جاري *** ما هذه
الدنيا بدار قرار
بينا ترى الإنسان فيها مخبراً *** ألفيته
خبراً من الأخبار
طبعت على كدر وأنت تريدها *** صفواً من
الأقذار والأكدار
ليس الزمان وإن حرصت مسالماً *** طبع
الزمان عداوة الأحرار
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق