أنا لا أتعلق بالأشخاص ولكن أحلق معهم . عادة مجالسنا الغيبة والبهتان فليكن مجلسنا هنا المديحة والعرفان . والغيبة هي ذكرك أخاك بما يكره وهنا ذكره بما يحب . هنا لا نتحدث في الأشخاص ولكن نتحدث عنهم !
السبت، 17 مارس 2012
ابن باز .. صوت الحق اليتيم
كعادة العظام عندما يولدون وقد كتب لهم أن يعيشوا الحياة بكرامة ورفعة .
وفي يفاعة عمره ومقتبل شبابه بدأ نور بصره يخفت ويروح ، ولما استحكم العمى من عينيه نفذت بصيرته واخترقت أستار اليأس والسلبية لتضيء للعالم أجمع من معين علمه وثمين فهمه .
لم لا ؟! والقرآن محفوظ في صدره ، يضيء ما بين جوانحه وقد اتخذه أنيسه وجليسه منذ الصغر ، وقد كان سباقاً إلى كل خير مبادراً إلى المعالي قبل أن يخط الشنب على وجهه ويستقيم عوده .
ولا غرو لمن ولد في عهد قريب من مجدد الدعوة في جزيرة العرب الشيخ / محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله- أن يشتاق للمعالي وقد أضاءت هذه الدعوة المباركة أطراف البلاد وأعادت للسنة موقعها من النفوس .
تقادمت الأيام بالشيخ الجليل وقد قرض الكثير من العلم وأتى على جل المتون حتى ذاع صيته في المعمورة وطلبه السائلون عن العلم بأصوله المتينة وجذوره الحصينة من كل مكان وطبق اسمه في البلاد .
ولأن الكبار دائماً لا يهتمون لصغائر الأمور وسفسافها وقد طبعوا بأنبل الخصال وأشرف الأخلاق فارتفعوا بها عن الدنايا وعزّ أن تطالهم الشائبات من الأخلاق والفعال ، فذلك الحلم من بين عديد الأخلاق ومزيد الصفات يتجلى في هذا الموقف ..
دخل رجل كثير السباب فسبَّ الشيخ وشتمه ، والشيخ لا يرد عليه ، وعندما سافر الشيخ إلى الحج توفي هذا الرجل فجهّز للصلاة عليه ، وامتنع إمام المسجد عن الصلاة عليه ، فلما عاد الشيخ عبد العزيز من الحج وأخبر بموت ذلك الرجل ترحم عليه ، وعندما علم برفض إمام المسجد الصلاة عليه ، امتعض لذلك وأنكره ، وبكل رفعة توجه إلى قبره وأدى الصلاة عليه .
وسبحان من جعل له في الأرض القبول ولكلمته آذاناً صاغية في الناس ولآرائه أنصار ومتابعون ولك أن ترى ذلك في كل فتوى موسومة باسمه كيف تلقى من الذيوع والانتشار ، وكيف يعمل بها الناس دون سؤال أو تحقق .
وليس الأمر تقديس شخصه والتعصب لرأيه بقدر ما هو تصديق لقوله وإدراك بأمانته فيما يذهب إليه ويختاره بنزاهة وتحرٍ للعدل والصواب .
وألزمته المكانة العلمية التي حظي بها والوجاهة الاجتماعية التي يتقلدها أن تكثر ارتباطاته وتزداد أشغاله فتأتي على كل وقته ، وبرغم ذلك كله فقد كان يداعب مرافقيه ويلاطف جلسائه بالأسلوب الذي يليق بمكانته .
وفي ذلك يذكر أنه - رحمه الله - إذا أراد الوضوء ناول من بجانبه ردائه أو غطاء رأسه ثم قال ممازحاً مداعباً : هذه يا فلان على سبيل الأمانة ، لا تطمع بها .
هكذا قضى بقية حياته عزيزاً كريماً حليماً معطاءً سهلاً هيناً ليناً ، ولم يبرح نجمه يزداد سطوعاً وإضاءة وعلمه ينتشر في الآفاق ليجلي حقائق الإيمان ويعلي كلمة الحق .
كم كانت تلك الليلة بائسة على الدنيا ثقيلة على النفوس عندما حانت اللحظة التي تزول فيها تلك اللبنة التي زينت البناء لتترك فراغاً واسعاً وفجوة مهولة لا يخفف من اتساعها إلا ذلك العلم الذي تركه ومجموع الرجال الذين صنعهم ليكملوا مسيرة الضياء المديدة .
رحم الله شيخنا / عبد العزيز ابن باز رحمة واسعة .
أحمد بخاري .. الروح المختلطة
لم تكن معرفتي به حديثة ولا جديدة ، فهي قديمة قدم وجودي في قريتي البديعة ، فهو ذلك الابن المدلل الذي يخرج كل حين بلعبة جديدة أو جهاز غريب .
ثم خرج من القرية ليصبح طالباً جامعياً وإن كنت لا أعرف تفاصيل بداياته الجامعية لكنني أعرف نهايتها ، فهو قائد شقته الطلابية وأميرها .
ولم تزل آثار قيادته حيّة حتى هذه اللحظة فساكنوا الشقة يأخذون برأيه ويستأنسون بمشورته ، بل ربما دخل فيهم عرضاً وأعاد تشكيل الشقة من جديد وهم في أشد القناعة وأوفاها .
لا يدل ذلك إلا على قدرته القيادية وملكته الرائعة لتولي أزمّة الأمور وإتمام مهامه بكفاءة عالية ، يقول كبار المدربين الغربيين : أن القيادة بقدر ما تترقى فيها بقدر ما يلزمك من تقديم المزيد من التضحيات والتنازلات من أجل الغير .
علاقة طردية غريبة ، لكن يبدو لي أن صديقنا فهمها جيداً وبدأ يتحمل في سبيل قيادته حتى أخطاء الغير والقيام بمهامهم برضى تام ورحابة صدر ، فهو ( عملي ) حتى الصميم ولو أردته حصاناً تمتطيه لإنفاذ أفكارك وتحقيق مشاريعك لتوطأ لك ولان .
ما يشدني كثيراً نحو هذا الشخص روحه المرحة الألفة التي تكره الدوام على حال واحد كثيراً ، بعيداً عن بعض لحظاته التي يغلي فيها دماغه وتنتفخ أوداجه وتحمرّ عيناه وترتعش يداه ويزمجر بصوته فذلك طبع لا ينفك عنه .
غير أن المرح طقسه الدائم وجوه الملائم وهو دائماً ما يأخذنا إلى رحلات متنوعة فمن البحر إلى الوادي إلى الجبل والتل إلى السهل إلى قنونا والسد والجميعات وعمق وشيع ومكة وجدة والمدينة وأبها ، في كل مكان جمعتنا به ذكريات لا تنسى .
الأحد 22 / 10 / 1430 هـ
بمناسبة حفل زفافه بقرية الصفة . انطلقت هذه المشاعر
محمد بن حسن البدوي .. يستكمل أثره بعد مماته
يموت الإنسان وتعيش خطواته الجادة ولحظاته الحاسمة التي قضاها في خدمة أمته ومجتمعه ، يغادر هذه الحياة وهو محمّل بالشكر والذكر والرفان على كل الدقائق فقط التي قضاها في سبيل الآخرين لا في سبيل نفسه .
مات الحسن بن علي - رضي الله عنه - فوجد الفقراء أثر ذلك وانقطعت عنهم المؤونة وذلك لشديد حرصه على إخفاء فضله رغم ذيوع التهمة له بالبخل والإمساك .
وهكذا عاش رجل هذا العدد وإنسان هذا الشهر الذي عاش والناس تستقل فضله ولا تنتظر من إنسان بلغ من العمر عتيّاً أن يعود بفضل أو يحقق نفعاً لأحد ، لكنه غلب الظن بيقين العمل وبدد شكوك الوهم بالإصرار والعزيمة والعمل الدؤوب .
لقد وصلنا من نفعه وهو موسد التراب وبلغنا من خيره وأثره وهو مقبور تحت الثرى لكأنه يعيش ويسعى ويحفد لأجل ذلك وما هو بميت ، وكل الخدمات والإصلاحات التي تعيشها ( قرية الصفة ) اليوم بقايا من فضله وسعيه ونشاطه .
كان مراقباً للمساجد ولا يُنتظر من مثله وهو كبير السن منحني الظهر مثقل الخطى أن يجيد مهمته ويخلص في عمله ولكنه بقي حتى هذه اللحظة الأخيرة من حياته دائباً على العمل حريصاً على الإتقان مجيداً لمهامه .
لقد ساقت الشيخوخة سحب البياض إلى شعر رأسه ولحيته وبقي على سابق عهده ووافر نشاطه وشبابه ، حريصاُ على مصلحه أهليه وبني قومه ومجتمعه ، غيوراً على مصالحهم وشديداً على كل مقصّر ومتقاعس وقاعد دون مهمته ومشروعه .
ولو رأيت احتراقه ولمست ذلك منه في الاجتماعات المتكررة لمصالح القرية وشؤونها لاستعجبت من هذه العزيمة الشابة المتوقدة والمبادرة المستوفزة والسبق لكل خيار واختيار وخطوة في سبيل الرقي بالبلدة .
لقد جاد بالوقت والمال والجهد حتى وهن منه العظم واشتعل الرأس شيباً ، بل بقي كذلك حتى أودع القبر وغادر الحياة وما زال خيره وفضله ونشاطه واضحاً جليّاً .
براء الذي أعرف !
لم يكن اللقاء الأول الذي جمعني بهذا الطفل " المشاغب " عندما أخذ خليل بحني الشيخي في التعريف بالجيل الجديد لإدارة شباب حلي .
فلقد سبق إلى سمعي المديح الذي انثال إعجاباً بصوته وجرأته وتمكنه الدقيق من آيات كتاب الله الكريم .
ولكن كانت مفاجأة عندما أشار الشيخي بإتمامه لحفظ القرآن الكريم ، ويا هناء هذا الشبل بهذه المكرمة الإلهية العظيمة .
عندما طلبته للجلوس بجانبي بادر بابتسامة عريضة كادت تسع كل الجالسين ، وبدأنا نتجاذب حديثاً أخوياً غامراً بالضحك والاستئناس وقد أعمل القرآن فيه لطافة لسان وحصافة عقل وطيابة قلب .
يدخل قلبك من أول مجالسة ويغمرك بأحاديثه البريئة التي تأخذ من اسمه نصيباً وافراً وتأخذ من المحفوظ في صدره كل رشد ورصانة وإيمان .
رأيت في حديثه الثقة والإيمان والرغبة الملحة في أن يعلو بنفسه إلى الرفعة والعلياء ، كما رأيته وهو يتحدث ويعبر ويشارك في ورش العمل بجسارة متناهية ونبوغ ملحوظ .
بينما يتحدث إليّ بلغة توقعني في ضحك دائم يمر في ذهني صور كل أبنائنا وإخواننا ممن يغرق في اللعب ومجالس الحارات المكتظة بالعيبات ، يفترّ شريط البصر أمام مشاهد لأشبال أعرفهم في مثل سنه أفرطوا في أخطاء أكبر من أعمارهم وهذا صنيع الإهمال الذي تمارسه بعض البيوت .
هنيئاً لك يا شيخي مشعل ، فمن عاجل بشرى الله لك أن ترى ابنك البراء وهو يطير بالقرآن إلى دولة الكويت ممثلاً عن بلدنا الأكبر .
هنيئاً وأنت ترى بذرتك التي غرست تورق بالخير والإنجاز والبشرى لك ولنا ولكل من يحبك .
هنيئاً لأنك لا تقول لنا " كن إيجابياً " وقم بحق " مشروع عمرك " من فراغ ! ولكنك تقول بذلك عملاً وحقيقة في صحيفة ابنك البراء .
يا رب احمي البراء من كل عين ، وارفع قدره واكتب له التوفيق والسداد في حياته وبارك في أثره وعمره .
أوعدك أن أتقرب إلى الله بقبلة في جبينك حال عودتك إلى حيث نحن هنا بانتظار عودتك البهيّة .
فاصلة ،،،
شكراً لجمعية تحفيظ القرآن بحلي ، فأنتم من تعهد هذه البذرة بالسقيا والرعاية .
فلقد سبق إلى سمعي المديح الذي انثال إعجاباً بصوته وجرأته وتمكنه الدقيق من آيات كتاب الله الكريم .
ولكن كانت مفاجأة عندما أشار الشيخي بإتمامه لحفظ القرآن الكريم ، ويا هناء هذا الشبل بهذه المكرمة الإلهية العظيمة .
عندما طلبته للجلوس بجانبي بادر بابتسامة عريضة كادت تسع كل الجالسين ، وبدأنا نتجاذب حديثاً أخوياً غامراً بالضحك والاستئناس وقد أعمل القرآن فيه لطافة لسان وحصافة عقل وطيابة قلب .
يدخل قلبك من أول مجالسة ويغمرك بأحاديثه البريئة التي تأخذ من اسمه نصيباً وافراً وتأخذ من المحفوظ في صدره كل رشد ورصانة وإيمان .
رأيت في حديثه الثقة والإيمان والرغبة الملحة في أن يعلو بنفسه إلى الرفعة والعلياء ، كما رأيته وهو يتحدث ويعبر ويشارك في ورش العمل بجسارة متناهية ونبوغ ملحوظ .
بينما يتحدث إليّ بلغة توقعني في ضحك دائم يمر في ذهني صور كل أبنائنا وإخواننا ممن يغرق في اللعب ومجالس الحارات المكتظة بالعيبات ، يفترّ شريط البصر أمام مشاهد لأشبال أعرفهم في مثل سنه أفرطوا في أخطاء أكبر من أعمارهم وهذا صنيع الإهمال الذي تمارسه بعض البيوت .
هنيئاً لك يا شيخي مشعل ، فمن عاجل بشرى الله لك أن ترى ابنك البراء وهو يطير بالقرآن إلى دولة الكويت ممثلاً عن بلدنا الأكبر .
هنيئاً وأنت ترى بذرتك التي غرست تورق بالخير والإنجاز والبشرى لك ولنا ولكل من يحبك .
هنيئاً لأنك لا تقول لنا " كن إيجابياً " وقم بحق " مشروع عمرك " من فراغ ! ولكنك تقول بذلك عملاً وحقيقة في صحيفة ابنك البراء .
يا رب احمي البراء من كل عين ، وارفع قدره واكتب له التوفيق والسداد في حياته وبارك في أثره وعمره .
أوعدك أن أتقرب إلى الله بقبلة في جبينك حال عودتك إلى حيث نحن هنا بانتظار عودتك البهيّة .
فاصلة ،،،
شكراً لجمعية تحفيظ القرآن بحلي ، فأنتم من تعهد هذه البذرة بالسقيا والرعاية .
عمر المتحمي .. الشيخ الوقور
قبل خمسة وأربعين عاماً وهو يقرأ في كتاب للفقه وحتى اللحظة لم يفتئ يطالع الكتب ويرتشف من العلم دون ملل ولا كلل .
وهكذا هي عزائم الرجال ممن عرف قيمة العلم وشرف أهله فنذر نفسه لهذا الشرف وأوقف حياته في سبيل العلم علماً وتعليماً دراسة وتدريساً استرشاداً وإرشاداً .
منذ رأت عيني النور وأصبحت من الفتوات التي تؤم شطر صلاة الجمعة وهذا الشيخ الوقور وقد صبغ لحيته متوسطة الطول بالحناء يعتلي منصة الخطابة ومقام الجمعة ويلقي بالمواعظ وينادي في النفوس البر والشكر والتقوى .
ولعله استفاض في التذكير والتنبيه حتى ذرف من عينه الدمع وتنهد بحرقة وألم على المجتمع والدين والإنسان ولم يوهنه كبر السن وما شاخت همته ولا هرمت عزيمته في الحق والبر والإحسان .
رغم صغر سني وحداثة عمري لكنه يلاطفني ويداعبني ويكثر من الحديث معي والجلوس إلي ويلقبني بالمدينة التي أدرس فيها أو المهنة التي أحلم بالعمل فيها .
ولعل الذكريات تسوقني إلى الماضي عندما كنا نزوره صبيحة كل يوم عيد برفقة بعض أصحابي الأطفال ويستقبلنا بحرارة ويصب لنا الماء والقهوة ويقرب التمر بنفسه ولا يسفه أحلامنا ولا يستحقر أعمارنا ولا يرانا إلا كالضيوف الكبار وعيناي تتلمح المكتبة الهائلة التي تقع خلفنا عند الجلوس .
موعدنا معه بعد الفراغ من صلاة العيد التي لا أعرف لها خطيباً وإماماً سوى هذا الشيخ الفاضل حيث يصدح بترتيل خاص وترنيمة عيد مختلفة لبقية أيام الإمامة من السنة ويذيع بخطبته ذات اللزمات المعتادة ثم ننفض من المصلى إلى حيث أهلينا وذوينا ويعقبهم في الزيارة .
دروسه الرمضانية اليومية عقب صلاة العصر تحمل من الذكريات والمعاني الكثير فهي واحدة من الملامح الرائعة لشهر الله الفضيل سيما وهو يلقيها بروح مؤمنة وصوت رخيم يحمل طابعاً رمضانياً مميزاً ونغمة صادقة مختلفة .
تستغرب من هذا الشيخ حصته الرياضية اليومية التي لا يفارقها حيناً بعد الفجر وأخرى عند العشاء الآخرة حيث يجوب قرية الصفة طولها وعرضها برفقه عصاه ولعل بعضاً من أبنائه أخذ بديدنه هذا ولكن لا أعرف هل سيتمسك به كما كان من والده الذي تجاوز الثمانين عاماً وهو على عهده من الخير والنصح والتوجيه والفضيلة .
أحمد بكري .. رمز الإيجابية
لا أحد يعرف أن يكتب عن هذا الإنسان بمثل ما أكتب ، ليس لأني أبرع كاتب ولا أجودكم قلماً وأبلغكم لساناً ، ولكني الوحيد الذي يعرف ذلك الإنسان ويحبه حباً كاد أن ينحل معه جسمي ويلتصق ببعضه ، ويطير القلب هياماً في سماوات الغرام .
وربما لم يكتب لأحد أن يكون تلميذاً في مدرسته ما بقيت به الحياة وامتد به العمر إلا أنا ، فما زلت طالباً بين يديه أثني الركب لأنهل من موارد البصيرة وألتقط من شوارد المعرفة وأقتفي أثره في الحماسة للإيجابية ذلك بلسان الحال لا بجودة المقال وبليغ الأقوال .
وذلك لأني وجدته في كل موقف صورة لا تتغير إلا إلى مزيد من النزاهة والحسن لا تزحزها تصاريف الأيام وتقلبات الحياة ، وأتلمح بين ثناياه بطولة أدبية شجاعة لا تقف لوفادة صديق ولا لصرامة مسؤول .
فهو الطاهر الصادق الزاكي أينما وجدته ، الناصح الأمين كيفما يستوجبه الحق وتطلبه العدالة ، والمبارك الصالح حيثما كان وأينما ارتحل ، نحسبه كذلك والله حسيبه ، ولعلكم اتهمتموني بالمبالغة والمغالاة وليس لي من ذلك نصيب .
وحالك واحد في كل حال *** وحالات الزمان عليك شتى
إنما أحدثكم بما يظهر لي حتى مع محن الحياة والمحكات التي تجلو فيها الشخصية وتبرز حقيقتها ، وهل لنا إلا الظواهر من الناس وما يغلب عليهم مع سبق حسن الظن بالمسلم وتحري الصدق والنزاهة منه .
ولهذا كان عمر – رضي الله عنه – يقول : " إن أناساً كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وإن الوحي قد انقطع ، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم ، فمن أظهر لنا خيراً أمناه وقربناه وليس إلينا من سريرته شيء ، الله يحاسبه في سريرته ، ومن أظهر لنا سوءاً لم نأمنه ولم نصدقه وإن قال : إن سريرته حسنة " البخاري .
ولا أعرف مخلوقاً على كثرة من أعرفهم ينقطع لمشروعاته التي يقدمها لمجتمعه بمثل ما ينقطع لها هذا الإنسان ، وربما أضر بمصالح أهله وشخصه من أجل ذلك ، حتى لا تكاد تجده يستقر في منزله إلا ما ندر ولا يهدأ هاتفه عن الرنين فبين سائل وطالب حاجة أو استشارة .
ولقد رافقت غير واحد من الرجال حتى خبرتهم وسبرت غورهم ، وربما جمعني العمل المتكرر غير مرة بصنوف الناس والأجناس فلم أجد مثله ، ظاهرة كباطنه وقلبه على لسانه وصدقه ديدنه وهجيراه في كل لحظة وحين .
ولا أجد رجلاً اتفق عليه المختلفون والتمّ عليه المتفرقون واجتمع حوله المتنافرون وعلى صلاحه وتقواه وحرصه على الخير مثل ما اتفقوا عليه ، وكم نقمت على الزمان وكظمت ذلك حتى تبدى في فلتات اللسان وهفواته .
نقمت عليه إذ نقمت لأنه لم يعطي هذا الإنسان حقه ولم يقدره حق قدره ، ولم ينزل الناس الذين اعتادوا الأخذ دون عطاء – على خلافه – أمثال هؤلاء الرجال الأفذاذ منازلهم من التقدير والاحتفاء والحظوة .
ولعله لقي من احترام تلاميذه وطواعية أبنائه وإذعان الصغار له واحترام الكبار لشخصه واستئناسهم برأيه والحاجة إل نفعه ومعونته ، لكنه لا يعدو أن يكون من قبيل المجاملة الاجتماعية المستملحة ، أما غير ذلك من حفظ الود له وإنزاله المنزلة التي يستحقها من التقدير والتوقير فلا شيء البتة .
وإن المجتمع الذي لا يحتفي بالمصلحين فيه الباعثين لمعاني الإيجابية والعطاء الثر دون مقابل لا يستحق أن يتقدن أو يُلتفت إليه .
أنا خير من يكتب عن هذا الإنسان ، ذلك لأنني عرفته معلماً : كأحرص ما يكون المعلم على طلابه وأخلص ما يكون إلى رسالته العريقة التي كاد أن يكون بها نبياً ، لقد كان يشعرنا أننا أقرب إليه من حبل الوريد وأحب على قلبه من نفسه وألذ في وجدانه من جريان الماء البارد بين عروقه .
وربما بلغ به من الحماسة لتفهيم الطلاب وغرس قيم كل درس في نفوسهم أن يفقد صوته ويحذره الطبيب أبداً بالتقليل من التحدث وإلقاء الدروس ، وهو لا يقوى على ذلك .
ناصح في الشارع آمر بالمعروف منكر للسيئ من القول والفعل ، مدرس يذهب نصف يومه في الشرح والحديث ، واعظ المسجد يلقي الدروس والرقائق ، ناشط دعوي لا يغمض له جفن في المساء قبل أن يدير اجتماعاً أو ينفذ مشروعاً في خدمة الشباب ورعايتهم .
ولعل ذلك أخذ من جهده ووقته ونشاطه وحق نفسه وأهله بل بلغ أن استلب من صحته وفي تمام الرضى وأقنع يقين ، أي فداء ذلك من أجل الهدف ، وأيّ تضحية في سبيل رسالته على وجه هذه الحياة .
وذلك لأنني عرفته في المسجد إماماً نشطاً تجاوز مفهوم الإمامة القاصرة حتى غدا مسجده منارة علم منبع هدى ، وأنشط بكثير من الجوامع الضخام في قريتنا الهامدة كأنها جثة بلا روح ، ولقد كان مسجده واحد من المنابع الأولى ونواة لمشاريع الدعوة المنظمة وجهود الإرشاد والوعظ الديني الذي ينتشر الآن في أكثر من ثلاثين قرية من وادي حلي .
إنني أكتب عن هذا الإنسان لأنه أضاء كل جانب من الإنسان حتى بدى وكأنه خال من العيوب مكتمل الشخصية ( معصوم من الخطأ ) ، ولولا ضلالة هذه المقولة لقلت بها ونعت أمثاله من الفاعلين والنشطين .
لقد كان نشطاً في حيه والشارع الذي يسكنه ، ويكفي أن تتلمس ذلك عندما أقول لكم أنه في قريتنا ما يتجاوز العشرة شباب فاعلين نشطين أصحاب مشاريع عظيمة وأهداف نبيلة وهم أبداً في سعي حثيث لها كما علمهم هذا الرجل .
وهو وجه اجتماعي فاعل وعضو لجنة إصلاح ذات البين ، وربما تجاوز نفعه أهل بيته وذوي رحمه ليحمل هموم قريته بأكملها ، فالشاب العاطل يقض مضجعه حتى يصيب رزقه والفتاة العانس لا يهدأ حيالها حتى تنال نصيبها والعجوز الوحيدة يقطع عليها وحشتها والعائلة المسكينة يسعى لها سعيها .
وهو على هذا المنوال منذ عرفته حتى اللحظة لم يوهن عزمه ولم تفت عضده تتابع السنين :
ما شاب عزمي ولا حزمي ولا خلقي *** ولا ولائي ولا ديني ولا كرمي
ما اعتاض رأسي غير شيبته *** والشيب في الرأس غير الشيب في الهمم
أما الدعوة فهي همّه الدائم وشغله الدائب وهو في خدمتها ما امتدت به الأيام ، وأنا أكتب هذه الأسطر وهو يدير أكبر مؤسسة دعوية في منطقتنا يصرف من أجلها معظم الوقت وتنال منه كل الجهد والسعي .
ناهيك عن حجم الإنجازات التي قدمها في هذا المجال والأشواط التي قطعها في مسيرته الدعوية ، ويكفيك أنه يعد رائد العمل الشبابي على محافظة القنفذة التي يتجاوز عدد نسماتها الخمسين ألف حي .
ولقد عرفت من أبوته وأخوته ما دفع البعض للظن أنه شقيق لولا اللون ، وابنا عائلة واحد لولا اختلاف القبيلة ، فهو ربما بلغ من اهتمامه وسؤاله عنّي أن أمدني مرات كثيرة بالمال إذا علم فاقتي ورقة حالي .
ولا بأس بالأخذ منه دون تردد فهو الأب والأخ الأكبر وربما أكثر من ذلك !!
عمر البدوي
الجمعة، 16 مارس 2012
الشيخ عجي بن محمد .. والزحف نحو المدينة
إن الرغبة الجادة الملحة في أن يكون الإنسان راقياً كما يريد له الله تتطلب من الشجاعة والقوة ما تعين على الثورة ضد التقاليد البالية التي ورثناها من آبائنا وتحول دون زحفنا نحو الإنسانية الحقيقية .
أثناء عيشهم في " الر...دحة " بقي فترة طويلة في خطر داهم وعرضة لتلك الآفة الداهمة التي طالما انقضّت على الناس بدون رحمة فاختطفت منهم الحياة وجرفتهم نحو الهلكة .
ولأنه رجل فاضل صالح عظيم لا يعيش لنفسه حمل معه همّ قبيلته وبني قومه وأصبح هذا هاجساً يؤرقه ودافعاً إلى اتخاذ القرار الصعب والحمل الثقيل وخوض التحدي .
انتقل رغم ممانعة والده واستثقال القبيلة لهذه الفكرة لكنه تمسك برأيه لا تعصباً ولا انتصاراً لنفسه ولكنها الثقة في صواب مذهبه والحرص على نجاة أهله فخاض تحدياً آخر وعاش مسؤولية عظيمة هي إثبات نفسه وترسيخ قدمه في هذه الفلاة المقطوعة .
ولأنه صاحب نظرة بعيدة ورؤية مستقبلية فاحصة عجِل إلى استغلال كل فرصة واستثمار كل سانحة تبرق في سماء الأمل فكان له ذلك حيث رأى أهلية هذه المنطقة الجديدة لتكون مركزاً حضارياً وعاصمة إدارية فكان له ذلك .
أقبل أهالي الردحة لسكنى هذه البلدة وكأنها فتح جديد لفكرته وتحقيق لإرادته واعتراف جمعي وجماهيري بنضوجه وحصافته ثم بدأت بوادر القرية الحالمة التي ولدت في ذهن هذا الإنسان قبل أن تكون واقعاً على الأرض .
مات هذا الإنسان ولم يزل يتفجر بالرغبة الصادقة في حياة حضارية ومدنية عميقة ربما لا يعرفها مصطلحاً وفكراً لكنه يتوق إليها طبعاً وفطرة .
لم أعايش هذا الإنسان سوى في شتات القصص والحكايات التي تدور حول شخصيته ولم أرى ملامح وجهه سوى في صورة قديمة وقعت في يدي قريباً فقرأت في ملامحه إنسان الرقي والرفعة والفضيلة .
ولقد بلغ مني الإعجاب في شخصيته كل مبلغ حتى دعاني ذلك إلى استكمال مشروعه الحضاري ليس على أرض قريتنا ولكن في نفوس أبنائها .
عمر البدوي
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)