الثلاثاء، 13 نوفمبر 2012

محمد سنده .. الأخ والأب مرة واحدة !





نهار الكتب

اليوم أول شهر رمضاني نعيشه دون شقيقي الأكبر أو فيما يخص ثقافتنا الدينية الأسرية راعيها ومؤسسها حتى إننا نستفتيه فيما سبق عن ما يغيب علينا علمه وليس كبير سؤال أو المشكل منها .
عدنا وإخوتي الذكور من المدرسة ، وما أبغض الدوام الدراسي في شهر رمضان وذلك ما كان في نظام دولتنا طيلة مرحلتي المتوسطة والثانوية ثم جاءت بعدها عشر سنوات لا نداوم فيها طيلة هذا الشهر المبارك إبان دراستي الجامعية .
أمرتنا الحبيبة أمي أن نعجل إلى نقل الكتب التي كانت حينها في منزل أخي محمد إلى منزل العائلة الرئيس ، وقد بدأ ذلك المنزل يتنازل شيئاً فشيء عن مقتنيات أخي إيذاناً بنازل جديد .
وهذه المرة جاء الدور على الكتب التي أخذت من أخي محمد – رحمه الله – جل وقته وماله وجهده وربما زاحمت يومه فلم يبقى له ما يصرفه لأهله والغادين عليه من الناس والمتطفلين .
استعنا بسيارة أحد الجيران المهيأة للنقل ، وما أشقى تلك المهمة فنحن في صيام عطاش وجوعى وفي وسط النهار حيث تتوسط الشمس كبد السماء في منطقة لم يجرب حرّها مخلوق حتى غلى رأسه كالمرجل وكاد أن يختل عقله ويطير من مكانه .
وأبلغ من ذلك هزالنا وضعفنا من أثر الدوام المدرسي الكريه في عزّ النهار ومنتصف القايلة ، ولكن الأمر قد نفذ وطالب الأمر لا يرد حتى لو طلبت أن تلقي بنفسك في وسط التنور المستعر .
بدأنا في ترتيب الكتب التي تجاوزت مبالغ شرائها كما حدثني صاحبها العشرة آلاف ريال ، لقد كان يعشق القراءة ولا يكاد يتركها حتى إنه ليعكف عليها ساعات طوال وربما نام وهو منكب على واحد منها .
في وسط هذه الأجواء الثقيلة على النفس وقع اشتباك بالأيدي بين إخوتي نايف وأحمد كثيرا المشاكل ، ولعلهم جزعوا من هذه المهمة وسرعان ما انتهى هذا العراك إلى التراضي والضم الحميمي مما أعان على استكمال المهمة بشكل سريع .
وصلت أحمال الكتب الثقيلة إلى منزل العائلة الرئيسي حيث نسكن ، وكم هي السعادة البالغة وأنا أتملى في أعداد الكتب الهائلة وقد أصبحت ملكي وقطعت عهداً معها ذلك الحين ألا  أختار صاحباً سواها ولا جليساً غيرها وأحسب أنني كنت وفياً معها .
وزهدني في الناس معرفتي بهم *** وطول اختباري صاحب بعد صاحب
لقد حان وقت ترتيب الكتب وصفّها على النحو الذي يروق لي واختيار الكتب التي أنتفع بها وأستغني عن الآخر لصالح واحد من المشاريع التي سيقوم قريباً في المنطقة على نية المغفور له بإذن الله .
وكم ندمت على هذه الفعلة فلم أعرف حينها أن العلم يتتابع بشكل مذهل ويصيبك بعادة نهم القراءة التي تطمع معها أن تلتهم كل ثقافة وتأتي على جميع ما كتب في العالم بل ما طبع منها وما يكون في ذلك الصدد .
ولتعلم أن أغنى ما يملك الإنسان هو ذلك المودع في الكتب ، فإنه وإن خسر الأموال الطائلة والذهب المكنوز لا يعد بخسارة مثل هذه المراجع النافعة والمصادر الجامعة .
وبينا أنا أسبح في أمواج الكتب المتعددة في كل فن ومجال وعرقي يتصبب عليها ويتفصد من جبيني بغزارة ويهطل على صفحات الكتب وأغلفتها وأنا في بالغ السعادة والاستبشار لأنني طالما علمت أن العلم لا ينال براحة الجسم وأن هذه المشقة ستتحول إلى فضيلة ونعم جمّة بعد حول الله وتوفيقه .

صباح شاتي
كان مساءً شاتياً وطقساً بارداً يكاد جلدك أن يتجمد من شدة وخز البرودة وزحف الطقس في بدنك ، والساعة تقترب من أوان الفجر في قريتنا وأطرافها ترتعد من شدة القرّ .
في تلك الأيام كان يزورنا المطر ولا يكاد يرحل قبل أن يمد ذلك البساط الأخضر الزاهي على هامة قرية الصفة الوديعة ، واليوم تبدّل الحال !! لا أعرف إن كان على وقع الاحتباس الحراري الذي بدأ يهدد البشرية وينشر الرعب في كل مكان من العالم .
أم أنها الذنوب من عند أنفسنا التي دعت الحيوانات لتشتمنا من طول العهد بالمطر ، ولعل هذا الحديث يجرّني إلى الفكرة السائدة في ثقافة مجتمعنا كون ضيق النفوس وشحها بالخير والتسامح كان سبباً حقيقاً في منع المطر واحتباس السماء ، وهنا يقوى الحنين للماضي والتشكي من الحال الراهن وأن سالفنا خير من حاضرنا والله المستعان .
أخي محمد يربت على أكتافنا بهدوء لنستيقظ لصلاة الفجر ، جميع إخوتي أصبحوا على أتم الاستعداد بعد أن تعاقبوا على الخلاء لقضاء حاجتاهم والتهيؤ للصلاة .
بدأنا نصطف أمام سيارتنا الهايلوكس أو الهاجري كما يسميها شقيقي الأكبر نايف ، وقوة الطقس تكاد تنخر جسدي النحيل الصغير وأنا أتدثر بمعطف وثير وقطعة لحاف ضخمة يشاركني تحتها جميع إخوتي وأجسادنا ملتصقة ببعضها في حميمية بالغة طالما تكررت في بيتنا الدافئ .
وربما تأخر أحدنا عن الحضور ويعود محمد مجدداً لتقصي أمره فإذا به يعود متسللاً إلى سريره ليعاود النوم مجدداً ، حينها سبق السيف العذل .
حيث لم يعد للهدوء والتؤدة موقع ، وتنهال على وجه ذلك النائم المتسلل صفعة مدوية من يد أخي محمد المليئة باللحم والغضب ينفخ أوداجه ويدوّر عينيه .
يعجل ذلك الكسول إلى معالجة الأم وينتظم معنا تحت الغطاء الجماعي ، ونتوجه إلى المسجد لأداء الصلاة ثم نعود مجدداً إلى المنزل فإما إلى النوم أو الدوام الدراسي .
وحتى بعد أن غادر أخي محمد المنزل إلى حيث يبيت مع زوجته لم يتركنا هملاً ، بل كان يتكلف المجيء مبكراً إلى منزلنا ليوقظنا لصلاة الفجر ولا يغادر البيت قبل أن نسبقه إلى المسجد .
وقد كنت أكثر إخوتي ممن ينال صفعات الوجه الساخنة نظراً لشدة كسلي وتحججي بصغر سني وعدم تكليفي بالصلاة لكنه كان يصرّ على أداء الصلاة جماعة في المسجد .
ولأن أخي محمد كان مشفقاً رحيماً فقد كان يتركنا أحياناً إذا شعر أننا في جهد من أمرنا وإرهاق شديد ومسيس حاجتنا إلى النوم ، ولا بأس بأداء الصلاة بعد الاستيقاظ .
وعلى كثرة ما نلتقي مع أخي محمد لم يكن يسألنا عن شيء أكثر  من سؤاله عن الصلاة ، وأين كان أداؤها وبرفقة من ؟
وعلى كثرة أخطائنا وتعدد هفواتنا لا يضربنا على شيء سوى الصلاة ، وهكذا دائماً لا يغضب لسوى هذه العبادة العظيمة ، رحمة الله على أبا عبد الرحمن ومتعنا الله بطاعته .


ولنا عودة وبقية ،،،

وائل .. شيخ القبائل









عمر ووائل أو وائل وعمر بأيهما ابتدأت وأحدهما اختتمت لن تحدث فرقاً ولن تغير شيئاً ، فهي قصة من الخيال وضرب من المحال أن تجدهما في موقعين مفترقين .
لقد كانا مضرب مثل وأنموذج صحب لا يتكرر ، يستشهد بهما القاصي والداني حتى خشينا على صحبتنا من العين ، فآثرنا أن تكون المشاعر الممتدة بيننا حبيسة الصدور وآن لها الآن أن ترتصف على السطور وتنتظم في هذه الكلمات المترعة بالحب لوائل .
وإن لم يكتب لوائل أن يكون له قلم متمكن يكتب به قصة الصحبة هذه ، فإن له صوت يتغنى بها وينشد أعذب قصيدة يمكن أن تكتب فينا .
أكتب هذه الكلمات ووائل يتقلب بثقل على فراشه وهو نائم ، لقد كسرت يده ليلة البارحة على ملعب القرية ، وكم هو الألم الذي يقبض على قلبي ويد وائل قد جبّرت بعد أن أهيضت البارحة .
هل رأيت ملازمة الظلمة للمساء والإشراق للنهار ، بل رأيت ملازمة ظلك وترادف اسمك لك ، هي أقرب من ذلك بكثير علاقة وائل وعمر .
لقد كتب لنا أن نكون أصحاباً كأجمل ما تكون الصحبة ، وأقرباء تجمعنا قربى الدم ، وأبناء قرية واحدة تضمنا بحنان إلى صدرها ، وزملاء دراسة لا يحجب عن مقاعدنا سوى الهواء ، وجيران : منازلهم تلتصق جدرانها كما تلتصق جدران القلوب ببعضها .
ولا أعرف أن كتب لاثنين بمثل هذا القرب ، ناهيك عن تلك السماحة التي تسود علاقتنا ، فلا أعرف أن كشّر وائل عن ناب غضب أو بدى بوجه عابس لي ولا قطّب بملامحه في وجهي .
غير ما كان أيام الطفولة من المشاغبات المتتالية والمداعبات المتلاحقة ، وبعض مُلح نستعذب بها الحياة حتى المزاح بيننا لا يبلغ أدنى الإيذاء وأقل الإجهاد .
إن حدثتك عن وائل فماذا أقول لك ؟! عن تلك الذكريات التي تصطف أمام ناظري من قصص ساخرة ومواقف باسمة وأحلام مهولة رسمناها مع بعضنا تحت سقف القلوب وبين جدران الحب والصداقة المنعتقة من كل المصالح الضيقة والنوايا الرخيصة .
أم عن إشراقة وجهه وإصباح طلته ورشاقة كلمته ونصاعة ضحكته وطيب قلبه وسماحة خلقه وليونة جانبه ونعومة ظاهرة وسماحة داخله .
أم صوته العذب الذي لا يروق لمسمعي غيره وتغريده الشجي الذي تحن له أذناي وإطرابه الموشى بالرخامة والنعومة .
عشرون عاماً هي أعمارنا وأنا أكتب لكم هذا الحديث ، لم تمر كالعادة علينا كلمح البصر بل كانت مليئة بالأحداث مثقلة بالمواقف تعج باللحظات التي سجلناها على صفحة علاقتنا ناصعة البياض .
لا أعرف أن كتبنا عليها بلون أسود أو أدنى قطرة حبر منه ، وإن كان يعني لكم الحزن والكآبة والمأساة فهي ليست في قاموسنا ولا تعنينا في شيء .
فرحنا واحد كما أن حزننا واحد ، والنجاح هو ذلك الذي نجنيه معاً ونصل إليه على قلب رجل واحد .

مع الأموات .. آثار باقية !





فقد حزين

ليس حديثي لكم الآن عبارة عن صفحة وفيات لإحدى صحفنا العربية الهزيلة ، ولا سجل وفيات لأحد مستشفياتنا العربية المتهالكة ، بل هو حديث مشاعر ومجموعة عواطف حيّة تمور في الصدور لمن بقيت أرواحهم حيّة في نفوسنا حتى بعد مغادرتهم ظهر هذه الحياة .
فقيمهم النبيلة ومواقفهم الجميلة لم تزل حاضرة في الذهن راسخة في الذاكرة تبعث كل حين ما يذكّرنا بهم ويحرك دوافع الشوق إليهم .
يوسف إبراهيم أنيس الصحبي ، كان الأسبق إلى مغادرة الحياة ، لقد كان الألم الحقيقي الأول في حياتي الذي تجرعت مرارته وذقت لذعته .
وربما كتبت قبل ذلك مقالة نشرت في صحيفة الرياض السعودية وقتئذ وعلقت على مواقفه الباسمة الذي طالما كانت تحضر معه في أي حال ، فلم أرى من المنطق نقلها حتى لا تتكرر الأفكار ويملّ القارئ الحديث .
رغم وفاة والدي – رحمه الله – وعمري عندئذ أربع سنوات ، لكنني حينها لم أكن أعقل مرارة الفقد ولهيب الفراق ، أما ما نالني حال سماع خبر هذا الشاب من ألم كاد أن يخلع قلبي من مكانه .
لقد كانت المرة الأولى وربما الأخيرة في حياتي كما أتذكر التي أسح فيها الدمع أمام الشباب ، فإن دموع الرجال – كما قيل – عزيزة ، وليس من المروءة أن تبكي أمام أحد .
غير أن هذا الموقف لا يأبه بمروءة رجل ولا جلادة نفس ولا يحتاج إلى حلم ورويّة ، فوقع المصيبة أسرع من كل عقل وأبلغ من كل حال :
لئن كنت محتاجاً إلى الحلم إنني *** إلى الجهل في بعض الأحايين أحوج

وإن كان قد تقادم الزمن بنا وشاخت ذكرياتنا مع هذا الصديق حتى لم يبقى منها إلا اسمه والوفاء الذي يسكن بقية إخوانه ، لكنه لا ينفك ينداح كل حين في مخيلتي بابتسامته المشرقة وإطلالته الوضاءة .
لقد كان ألطف من عرفت وأجود بالحب ممن لا قيت وأبرد على القلب من قطع الثلج ، وأحب إلى النفس من سلوة الخاطر ومهجة الفؤاد .

أما صديق صديقي / عبده بحران الشقيفي فلم يجمعني به زمن طويل ولا زمالة دراسية عتيقة ولا حتى لقاءات متكررة أو مطولة ، لكنها الصدفة إذا ما جاءت على نحو يجمعنا بأنبل الناس وأخيرهم .
لعله من الغريب أن تجد مخلوقاً قليل المعرفة بك ، ثم إذا ما التقاك ضمّك إلى صدره حتى تجتمع أضلاعك من شدة الشوق وفرحة اللقاء ، ويقبض على يدك بحرارة وقوة ولا يكاد يطلقها وكأنه يشتهي أن تودعها بين يديه وتستأمنها لديه ، ناهيك عن تلك الابتسامة العريضة التي تفيض من ثغره بكل معاني الصفاء والجلاء والمحبة .
ولعل رجلاً لا يجمعك به كثير مواقف ولا تربطك بشخصه عديد قصص سوى الشوارد والنوادر ثم يترك في نفسك كل هذا الأثر ويبقي لك عمق الانطباع الإيجابي الرائع لحقيق أن لا يغادر الذاكرة والقلب وإن غادر الحياة .
وبقدر ما ألِمت لموته فرحت لخبره ، ذلك أنه مات في ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان المبارك من عام 1429 هـ ، ولعله من بشرى هذا المؤمن التقي الخفي الغني أن يموت في مثل هذه الليلة المباركة .
وقد كان صديقي الحبيب  ( وائل إدريس الصحبي ) من أشد الناس ألماً لخبر هذه الوفاة وأكثر وقعاً عليه فهو المقربين إليه والمحببين لنفسه ولم أجد وقتها كلمات تسعفني لتسليته ومواساته فالفجيعة كانت قاسية صلبة .
وقد جاء الخبر حينها ونحن في اعتكاف العشر الأخير من رمضان وربما كانت فرصة للدعاء لهذا الشاب الخلوق في أطهر بقعة عسى أن يتقبل الله دعائنا وأن يتغمد هذا الشاب بواسع رحمته ويدخله فسيح جناته ، آمين .

أما زميل الدراسة لسنوات عدة وصديقنا الوديع / عمر أحمد الغانمي فقد خطفه الموت من حضن الأحلام التي يعيش وسطها كشأن كل شاب ، خطفه ولم يبقي لنا سوى حجم الذكريات الضئيل وراءه .
ولعل طيبة قلبه وسماحه طبعه ودماثة خلقه حتى لا تجده مرة يرفع صوته في شجار أو يبتدرك إلى خصام جعلته يسكن قلوبنا وأذهاننا ، يقول الله تعالى : اطلبوا الحوائج من السمحاء ، فإني جعلت فيهم رحمتي ، ولا تطلبوها من القاسية قلوبهم ، فإني جعلت فيهم سخطي " كما أورده القرطبي في تفسيره .
كان يحب المزاح كثيراً وهو دائماً ما يحاول أن يصارعني ويغلبني لولا نحالة جسمه وضعف بنيته ، كان مؤلماً جداً خبر وفاته حيث لم يعش طويلاً بعد تعرضه لحادث مروري .
وكذلك عيشه في هذه الحياة لم يدم طويلاً فلقد عاجله الأجل قبل أن يبلغ العشرين عاماً من عمره ، رحم الله عمر ساس كما كنت أناديه فلقد ساس قلوبنا إلى الخير وحب الناس واللطف معهم .

حكم المنية في البرية جاري *** ما هذه الدنيا بدار قرار
بينا ترى الإنسان فيها مخبراً *** ألفيته خبراً من الأخبار
طبعت على كدر وأنت تريدها *** صفواً من الأقذار والأكدار
ليس الزمان وإن حرصت مسالماً *** طبع الزمان عداوة الأحرار

مع المعلمين .. آثار منطبعة !




علي حمد .. معلم الحلقة

مع صوت مؤذن مسجد الحي صاحب الصوت الندي الشجي / عمر أحمد عباس البدوي لصلاة المغرب أرتدي ثوبي المكدود وأهم بالخروج إلى حلقة التحفيظ ، بعد مقاطعة طويلة بسبب الحملة التي رفعتها ضد المحسوبية والمحاباة رغم صغر سنّي لكنني اخترت التأبي على وأد الحقوق منذ وقت مبكر ومبكر جداً .
هناك ينتظرنا معلم الحلقة العزيز / علي حمد بخاري الصحبي ، ذلك الرجل صاحب الفضل الكبير في إجادتنا لتلاوة القرآن الكريم .
بعد الصلاة نمسك مصاحفنا المخصصة ونغيب في مراجعة الآيات التي يلزمنا حفظها وتلاوتها بعد قليل ، وفي أوقات الراحة بين كل ورد وآخر نطلب الله ألا يأتي معلم الحلقة .
وما إن نسمع محرك السيارة قد توقف أمام باب المسجد حتى يعود الطلاب ترتيب أنفسهم وإعادة الانضباط مجدداً حتى لا تسبق عين المعلم إلى أحدهم في وضع شائن يستحق عليه الضرب .
كنت ووائل إدريس الطالبان الأبرز والأكبر والأنشط في الحلقة فنحن معاً في كل لحظة من الحياة ، ويولينا معلم الحلقة من الرعاية والولاية الشيء الكثير ، ويقدمنا كثيراً على بقية الطلاب ويكِلنا من مسؤوليات الكبار ما لا يتحمله غيرنا .
ناهيك عن الأنشطة الثقافية والترويحية المصاحبة للحلقة ونحن من يتولى تقديمها وترتيبها والعمل عليها .
ينادي معلم الحلقة كلٌ حيث مجموعته التي اتفقت في مقدار حفظها .
نجلس أمام معلمنا الذي لم أعهد منه أن ضربنا أو عنفنا رغم استحقاقنا الأكيد لذلك أحياناً ، ولا يتجاوز أن يلومنا بعض اللوم أو يرسل بعينيه العابرة كرسالة عتب إلينا .
تمتد إحدى قدميه بجانب وائل الذي يجلس على يساري وخيزرانه الأصفر الممشوق ينام بالقرب مني على الجهة اليمنى ، وأيّنا بدأ في تلاوة المقطع فنحن نتقنه وقل أن نقع في خطأ إلا ما ندر والفضل لله من قبل ومن بعد .
لقد تخرجنا من هذه الحلقة مبكراً نحمل سبعة أجزاء فقط ، وما زالت آثار معلم الحلقة من احترامه لنا وتقديره على غير العادة في نفوسنا باقية نكن له إزائها كل تقدير وإجلال .
بارك الله في عمر أستاذنا / علي حمد الصحبي وجعل الله له بكل آية أقرأني إياها فضلاً وأجراً وجنة عرضها السماوات والأرض .



حسن الشيخي .. حنان المعلم

أتذكر جيداً تلك الخطبة العصماء التي أسمعني إياها الأستاذ / حسن محمد الشيخي حين عدت متأخراً إلى حصته غير آبه به ، فلقد قابلت فضله بالجحود ، وغض الطرف المتلاحق عني بسوء الاستغلال والتمادي .
وما إن انتهت الحصة حتى أعلن اعتذاره لي أمام جميع طلاب الفصل وأعاد بذلك مكانتي وموقعي من النفوس .
يعد الأستاذ حسن الشيخي - معلم مادة البلاغة بمدرسة الصفة المتوسطة - واحد من المعلمين الذين أحدثوا أثراً في نفسي وكان سبباً حقيقياً بعد فضل الله تعالى في حصولي على المركز الأول في الإلقاء والتعبير على مستوى محافظة القنفذة .
لقد كان يشعرني بالحب والدفء والتقدير كثيراً حتى أجبرني على الشعور أنه بمثابة الأخ الأكبر وكان كثير المداعبات والملاطفات والتقرب إلينا .
وأنا أكتب هذه السطور ، بردت العلاقة بيننا كثيراً إلى حد الانقطاع وفترت نار التواصل إلا من بعض الصدف التي تجمعنا بين الحين والآخر .



المعلم الإنسان .. عبد الهادي الحسناني

وقبله كان المربي الفاضل الأستاذ / عبد الهادي الحسناني والد صديقي علي ، هذا الأستاذ الرائع بكل ما تعنيه الكلمة رغم غلظته وشدة بأسه لكنه يملك قلوب طلابه على النحو الذي يقول به الإمبراطور الفرنسي ( أن يخافك الناس خير من أن يحبوك ) .
صاحب فضل عظيم ، ففي كل مناسبة أنتصب فيها أمام منصات الإلقاء والحديث يزورني كأجمل ذكرياتي وأروع ملامح الماضي البديع .
عندما تطورت قدراتي في القراءة المنطلقة خالج إحساس ما هذا المربي الفاضل أن ثمة موهبة تسكن خلف هذا الطفل الطري اليافع ، واختار أن يضمه إلى جماعة اللغة العربية ولو قسراً ذلك لأنني تمنعت على المجيء والحضور في بادئ الأمر .
قدّم الكثير من المرغبات والمغريات لكنني أرفض وأتمسك بقرار الامتناع حتى لعب بالورقة الأخيرة وهي توظيف دور أخي أحمد واستخدامه كفرصة ضغط على هذا الطالب الأبله المتعجرف .
وبالفعل كان له ذلك وقد سحبني بالقوة والسلطة في وسط المدرسة للذهاب إلى مقر الجماعة ، وهناك وجدت من الاحتفاء والتقدير والاهتمام ما قدّمني لأصبح رئيساً للمجموعة وهذا ذكاء وفطنة من المعلم / عبد الهادي الحسناني .
وعند تنصيبي رئيساً للجماعة شعرت بالانتماء الشديد وأنها جزء من كياني لتبدو نباهة المعلم ثانية في تكليفي المباشر بالخروج للإذاعة المدرسية الصباحية منذ غدٍ ، لتصبح لي فيما بعد عادة يومية .
كان يوماً مفصلياً بالنسبة لي وكالعادة شاركني في أول إذاعة أظهر فيها رفيق الدرب وصديق العمر ( وائل إدريس الصحبي ) ، وكان ذلك اليوم أول ممارسة إعلامية صريحة لتخصصي حالياً .
ولم يتوقف دور هذا الإنسان في صقل مهاراتي وبناء شخصيتي عند هذا الحد بل كان يشعرنا دائماً بالأبوة والحنوّ والثقة ، صدقوني !! أن تُشعر إنسانا بالثقة والإكبار أعظم ما يمكن أن تقدمه لإنسان تنوي تصديره كمبدع وقيادة نافعة .
غادرت المرحلة الإبتدائية والقلب مجروح لفراق هذا المعلم الأب الإنسان ، ولعل الله – عز وجل – عوّضنا عن ذلك برفقة ابنه علي وصحبته الدائمة سيما وهو يأخذ عنه أفضل الطباع وأحسن الخصال .


عادل مديني .. مرآة الروح والجسد

وليس في ترتيب المعلمين على هذا النحو أي سر أو سبب فكلهم سواسية لهم فضل كبير ودور عظيم ولهم منا كل التقدير والاحترام .
ومنهم معلمنا في المرحلة الثانوية الأستاذ / عادل مديني الكيادي الذي يشبهني في أشياء كثيرة مثل الطول واللون وتدويرة الوجه والاهتمامات حتى كان يظن بعض الطلاب أننا أبناء أم واحدة والحقيقة أننا أبناء أمة واحدة .
ولم يقو الرابط بيننا حتى شاب العلاقة شيء من سوء الفهم والتقصير في حق بعضنا ، وبغض النظر عن المتسبب والبادئ بالإساءة فإن القلوب قد صفت والصدور اطمأنت واستنامت إلى بعضها .
وقد كنت أثق في مشورته ورأيه فهو صاحب خبرة طويلة وتجربة غنية وثرية وموهبة متفجرة ومزيته أنه متعدد المهارات والأدوات حتى تجد له في كل ميدان صولة وفي كل ساحة ومجال جولة .
وقد جمعتني به كثير من المشاركات والبرامج التي نجحنا فيها بشكل لافت ومبدع بفضل الله ثم بمسحته المتفردة وقدراته الفذة المتميزة ، أضافت لي هذه النجاحات كثيراً من الثقة والدربة والمراس .
وكثرة مشاغل هذا الإنسان وتعدد ارتباطاته يعيق كثيراً من تجلي إمكاناته ومواهبه ، كما أن غيابه اللافت عن المؤسسات الأهلية والمدنية يحرمها من قدراته الواسعة وأفكاره الناضجة .
وهو يشغل الآن مركزاً رسمياً لرعاية الموهوبين سيما وأنه نشط في هذا المجال ويحمل همّاً ثقيلاً وصدراً مترعاً بالرغبة الصادقة في إذكاء الطاقات وإيقاد الهمم ورعاية الموهوبين ولديه من المشاريع والأهداف ما يكتب له تاريخاً عظيماً ويبقي له أثراً واسعاً .
ولا أعرف لماذا يتأخر عن أن ترى النور ؟!!


مشعل الفلاحي

وخارج أسوار المدرسة لي من المعلمين والمشاعل التي أضاءت لي الطريق كثير ، منهم الشيخ الفاضل / مشعل بن عبد العزيز الفلاحي صاحب حركة التنوير والتبصير والتصحيح في الفكر والثقافة الشعبية في وادي حلي ، الرجل الذي يحمل لواء الإيجابية ويحيي هذه المعاني النبيلة في أبناء جلدته .
ورغم قلة احتكاكي به ولقاءاتي النادرة معه إلا أنه يصلني بكثير ، وليس مجرد رسائل قيمة ثمينة يبعثها بشكل شبه يومي وتحمل كثيراً من الأشواق والأمنيات الصادقة بالخير والفلاح .
وأنا شديد الإعجاب به على قدر ما يمنحني من الحب والتقدير الذي أشعر به دون تصريح وألمسه دون أدنى تلميح إلا في ثنايا سؤالاته المتكررة عن حالي ورسائله الوجدانية العميقة التي تستقر في صدري سيما إذا رفع عينيه ودونها تلك النظارة المدورة وكشفت عن حدقتين نافذتين طالما تفحصت منشورات المطابع ومكتوبات العلماء العظام فالقراءة كما حدثني غير مرة تعتبر مهنته الرئيسة وشغله الذي لا يصرفه عنه مخلوق .



عبد العزيز قاسم

ثم إلى رجل الصحافة الإسلامية الأول في السعودية وربما العالم العربي كله ، صاحب المكاشفات الشهيرة .
وكم هو فخري واعتزازي إذا عددته ضمن معلميّ وفي قائمة أصحاب الفضل عليّ ، فهو واحد من الرجال الذين زرعوا الثقة في نفسي وصاغوا شخصيتي ووقف إلى جانبي بكثير من الدعم المادي والمعنوي والحفز نحو التحدي والفاعلية .
فلم أكن أعرف أن رجلاً بهذه الشهرة العريضة يسعه أن يسمع لطلبي ويجيب سؤلي بالرغبة في العمل الصحفي برفقته وسارع إلى استقبالي بحرارة بالغة واحتضن موهبتي الغضّة الكسولة .
رغم أنني أتعبته كثيراً وخذلته في غير موقف إلا أنه كثير التودد والسؤال عني ويبالغ في رعايتي والتواضع لي بشكل يشد الانتباه ويلفت النظر ، ولا زلت أذكر وقفته للسلام عليّ وتوديعي حتى باب المؤسسة الصحفية التي يعمل بها .
شكر الله فضلك دكتوري العزيز / عبد العزيز بن محمد قاسم وبارك الله فيك ، ولعل موعداً قريباً يجمعنا .


ولنا عودة وبقية ،،،